رواية نهي الجزء التاسع

موقع أيام نيوز

مشهد الوداع الأخير فشعر بدمعة ساخنة تجري على وجنته.. تلتها عدة دمعات مسحها سريعا واقترب أكثر متمسكا بالقطعة الرخامية بكلتا يديه كأنه يبثها أشجانه وحنينه..
بقي على تلك الحال كتمثال جامد مغمض العينين لا يتحرك منه إلا بضع دمعات تجري على وجنتيه وفي تلك المرة لم يبذل جهدا لايقافهم...
مرت فترة لا يدري إن كانت دقائق أو ساعات وأخيرا تحرك خطوات قليلة ليتهالك جالسا وقد ثنى ركبتيه وارتكز بمرفقيه عليهما محيطا وجهه بكفيه وملتفتا بكل كيانه نحو الصرح الرخامي الصامت رامقا إياه بنظرة حنين ثم ابتلع ريقه هامسا_
منى.. ملاكي.. وحشتيني قوي.. قوي.. ما فيش كلام ممكن يعبر عن اللي جوايا.. ياااااه يا منى.. جوايا كلام كتير.. كتير قوي.. مش عارف أبدأ منين..
هز رأسه بحيرة ثم أخرج صورة لابنته منى الصغيرة ليرفعها بمواجهة الرخام البارد ويكمل بخفوت_
منى.. أعرفك بمنى الصغيرة.. أيوه اتجوزت.. استني بس.. مش زي ما أنت فاهمة.. عارفة لورا.. أكيد طبعا فاكراها.. أيوه.. هي اللي اتجوزتها..
ضحك بمرارة ليكمل وكأنه سمع ردها_
لا طبعا مش جمالها هو السبب.. ولو أني ممتن للجمال ده لأن منى الصغيرة ورثته.. هكلمك بصراحة يا منى.. أنت الوحيدة اللي هتفهميني.. أنا اتجوزتها في لحظة ضياع.. غياب وعي وإدراك.. تعرفي أني جددت عقود جوازي بها بعد ما بلغتني بحملها..
هز رأسه بمرارة ليكمل_
ليه.. بتسأليني ليه..
ابتسم بمرارة وهو يهز كتفيه_
ما كنتش متأكد من صحة العقد الأول..
عادت نظراته لصورة ابنته وتحركت أنامله تتلمسها بحنان ثم شردت نظراته للمجهول_
لا يا منى.. ما حبتهاش.. ما اقدرتش.. يا ريت الواحد كان ممكن يتحكم في قلبه.. لورا.. إنسانة كويسة جدا.. لكن ڠصب عني بتمثلي لحظة انعدام إرادتي.. لحظة هي اللي سيطرت فيها على حياتي.. أنا مش بلومها.. لكن من جوايا..
قهقه عاليا وهو يواجه الصرح الرخامي_
بتضحكي.. أنا عارف... بس ده إحساسي.. وللأسف مش عارف أتغاضى عنه..
سكت للحظات ثم أكمل وكأنها أجابته_
عندك حق.. مش ده اللي عايز أقوله.. في جوايا كلام تاني.. كلام يمكن كان لازم أقوله للورا الأول.. لكن.. منى.. أنا ما نسيتش ومش هنسى.. منى.. أنت كنت أحلى حاجة مرت في حياتي.. حبيتك.. حبيتك قوي.. فراقك.. فراقك دمرني.. غربني.. غربة كانت جوايا مش مجرد بعد عن أهلي وبلدي.. سنين وأنا مش عايش.. بتنفس.. وأكل وأشرب.. لكن مش عايش.. لحد ما.. ما شوفتها.. شوفتها بجد.. صبا.. صبا يا منى.. فاكراها..
أغمض عينيه وكأنه يخشى لفظ القادم_
منى.. أنا.. بح.. بحبها..
أطلق زفرة حارة وكأنه يطلق سراح حمل ثقيل ثم الټفت ثانية_
مش هقدر أطلب السماح.. منى.. افهميني.. المشاعر اللي جوايا لها أطهر وأقوى من أني أطلب السماح منك.. منى..
أغمض عينيه پألم وأخرج من جيب سترته هاتفا عتيقا.. ذلك الهاتف الذي لم يتخلص منه طوال السنوات السابقة.. .. ثم وضعه بخفة أمام القطعة الرخامية هامسا_
منى.. هتفضلي دايما.. جوايا.. جوه قلبي في جزء محفور عليه منى.. دايما هيكون ليكي.. الوداع يا ملاكي...
قال كلماته الهامسة وتحرك مسرعا نحو البوابة المفتوحة.. ليتوقف أمامها قليلا ويلتفت برأسه للخلف للحظات قليلة قبل أن يغلق البوابة بحسم وثقة...
استقرت حالة نيرة الصحية وصرح لها الطبيب بالخروج فبدأت تتأهب نفسيا للعودة إلى منزلها ولكن مازن فاجئها برحلة خاطفة إلى أحد المنتجعات السياحية حيث قضيا عدة أيام تفرغ مازن خلالهم لتدليلها ومنحها ذلك الاحساس الذي طالما اختصها به على الدوام.. هي مدللته.. أثيرته.. طفلته الحبيبة رغم كل عيوبها ومساوئها..
كان يطعمها بيديه.. يصطحبها بنزهات طويلة وحدهما لا يصاحبهما سوى همس الأمواج التي أسر إليها بعشقه عشرات المرات.. أثبت أنه عاشق مثالي مدرك ومتفهم لكل رغبات معشوقته فبخلاف نزهاتهما الهادئة كان يرافقها ليلا إلى أفخم الفنادق بالمنطقة لتعيش الصخب الذي لا تستطيع الاستغناء عنه وتنهي سهرتها بالرقص بين ذراعيه حتى تنبههما آشعة الشمس لصباح يوم جديد..
لم يقربها بعد مانحا إياها كل الوقت للتعافى ولكنه لم يستطع منع نفسه من خطڤ بعض القبلات واللمسات التائقة والتي تخبرها بوضوح كم يشتاق وصالها.. وكم السيطرة التي يفرضها على نفسه ليسمح لها بالتعافي الكامل قبل أن يطلق رغبته بها من عقالها..
أما نيرة فقد استعادت تألقها وابتسامتها السعيدة بفضل رقته وحنانه وحبه الذي أغدقه عليها بلا حساب وكأنه فتح لها خزائن قلبه على مصراعيها تغترف منها ما تشاء ولكن ظل ذلك الهاجس القاتم الذي يحثها على المواجهة والبدء بصفحة نظيفة تماما.. تريد حياة جديدة.. وكم ترغب ببدئها بالطريقة الصحيحة ولكنها تخشى ردة فعله.. تخشاها وغير قادرة على توقعها.. اتخذت قرارها بمصارحته ولكن أولا لتقترب منه أكثر.. تترك نفسها تتغلغل داخله لتصبح جزء منه.. تدرك عشقه لها وتعلقه بها وتدرك أيضا ضعف رصيد ثقته بها.. غفرانه الذي منحه أخيرا حتى لو لم يصرح علانية كان هبة غالية لا تريد التفريط بها ولا يمكن أن تجعله يشك بها ثانية
تم نسخ الرابط