رواية جاسر الجديدة ج1
المحتويات
طرف شفتيه وهو يقول بإبتسامة ماكرة
.. إزيك يا درية
تلك المرة الأولى التي يتخلى فيها عن الألقاب الرسمية والتي يحرص على استخدامها مع الجميع والسبب واضح فهيئتها منذ قليل كانت لتكون في غرفة خاصة وليس بهو طابق رئيس مجلس الشركة ! فاحمرت وعبست وقالت باستياء موجهة له نظرة مؤنبة إذ كان يتحتم عليه أن يعلن عن وجوده أو الأقرب يغض بصره كما كان دوما يفعل
هي تصرفه بأدب وبرود كان ليشعر بالضيق والخجل فى السابق ولكنه اليوم وفي تلك اللحظة الاستثنائية اسند ذراعه على سطح مكتبها وهو يقترب منها وعطره المثير يلفح أنفاسها
.. طب مش هتطلبيلي حاجه اشربها واتطمن منك على الشغل وأخباره
فرفعت سماعة الهاتف بحزم وهي تملي المتلقي بكلمات معدودة
وضعت سماعة الهاتف وناولته نسخة من الملفات المتأخرة التي لم يطالعها منذ ثلاثة أشهر كاملة كانت احتفظت بها له صامتة..أخذها منها وهو يغمز لها بعينه
.. على فكرة بشربها سادة دلوقت
وانصرف لغرفة أخيه.. ولم تكن هي لتعيد على مسامع محفوظ تغير ذوقه على أية حال فهي أم لثلاث وأمر تغيير طلبات المأكل والمشرب غير وارد لصغارها فكيف برجل ناضج يبلغ أربعين عاما! العمليات الحسابية جزء لا يتجزأ من حياتها اليومية مضت نحو المصعد وهي تحمل بقالة تكفى عشاءا وفطورا لأطفالها وهي تحصي الجنيهات بيدها الأخرى ١٦ جنيه ربع جبنه٢٠ جنية ربع بسطرمة! كيف ومتى قفزت الأسعار تلك القفزة الچنونية! عقدت حاجبيها وهي تفتح الباب وكادت أن تصطدم بالخارج منه وعادت للخلف خطوتين و لولا أنه أسرع ومد ذراعه نحوها لكان نصيبها حتما سقطة مهينة من فوق الدرجات العريضة تحت ناظريه عبست بشدة فى وجهه وتمتمت بحرج شديد
تنحنح قائلا بحرج هو الآخر
.. أنا اللي آسف زقيتك منغير مقصد كنت مركز فى حالة مريض كده شغلاني.
ولمح بفطنته خطواتها المتقافزة نحو المصعد فقال
.. آسف مش هعطلك أكتر من كده
ودون أن تلتفت له مرة أخرى قالت
.. معلش أنت عارف الولاد بيبقوا قاعدين لوحدهم
ووقف هو يتطلع اللمصعد المغلق إثرها يتابع بعينيه تلاحق الأرقام المضيئة على شاشته ونسي تماما حالته التي تنتظره في المشفى منذ أن انتقل للعقار منذ خمس سنوات وشغلته تلك المرأة التي تعيل بمفردها أسرة مكونة من ثلاثة أطفال أشقياء..أشقياء جدا فى الواقع بل الصغير وحده. متذكرا حوادث الصغير المتتالية آخرها حريق أشعله بمراب العقار منذ شهران تقريبا عندما كان يجري تجربة على سرعة إشتعال الحرائق بكميات مختلفة من الجازولين أما الأوسط فصبي يبلغ إحدى عشر عاما معتدل في الطول معتدل في الهدوء والكبير البالغ ستة عشرة أعوام أكثرهم هدوءا ورزانة كأمه بالضبط وهو الأعزب
رد صغيرها
.. وأنا أعملك أيه أنت اللي بتتأخري وبحس البيت فاضي من غيرك
تهدلت كتفاها بتعب ونظرت إليه ولملامحه المشاكسة تماما مثل أبيه بارع وبشدة في إشعارها بأن الخطأ خطؤها بالأساس والذنب كان ذنبها بالأصل بل وعليها تقديم إعتذار فوري وحاسم فرفضت بعند تلك المرة وقالت
أجاب متبرما
.. عمرو في الدرس وحسين حاطط السماعات في ودنه ونايم
تركها ومضى فى الظلام يتحسس طريقه
.. حضرتلك الغدا مع عمرو اتغدى هوا قبل ما ينزل مع حسين وأنا قلت أستناك بس كنت غلطان
تمالكت ضحكاتها المختلطة بدموع الذنب وهي تراقب رحيله الغاضب نحو غرفته وهي تفكر بل هو أبيه أغلقت التلفاز والمذياع وتحسست بقية الأجهزة تحسبا وبعدها أعادت المفاتيح لوضعها وعمت الأنوار أرجاء شقتها الواسعة الغرف كلها مضاءة حتى حمام الضيوف! فصغيرها رغم شجاعته وحماقته اللامتناهية يرهب الوحدة كأي طفل في عمره دخلت غرفته التي يتشاركها مع أخيه الأوسط وهى تخاطبه
.. متزعلش يا أيهم ..يعني عاجبك كل يوم أرجع الأقي طنط اجلال مقبلاني بالشكل ده
جعد أنفه بحركة صبيانية مشاكسة
.. وأنا مالي بأم أويق دي
عنفته سريعا
.. ولد! أتأدب ..ميصحش تقول عليها كده
ظل عابسا بل وصمم على مزيد من التجاهل همست وهي تقترب
.. اللي خلف ممتشطالع عنيد لأبوك
جذبته بحنان وقبلته بدفء وهي تعبث بخصيلات شعره الغزيرة الناعمة قائلة
.. أنا هروح أتشطف وناكل سوا
واطمأنت قبل أن تخرج على الآخر الغارق بسبات نوم لا ينتهي إثر كل مباراة قدم يشترك بها فريقه ورفعت في طريقها للخارج ملابسه المتسخة التي ألقاها بإهمال وقبل أن تخلع ملابسها قامت باتصال هاتفي مع والدة صديق إبنها الأكبر والتي يقام فى منزلها درس الرياضيات لتطمئن على ابنها.
أن تفقد الأنثى إهتمامها فجأة بالرجل فهذا يعني أنها قد توقفت عن حبه بل ربما كراهيته أيضا منذ زمن بعيد ولكنها لم تفقد إهتمامها به قط ولا توقفت عن الشغف به وبكل تفاصيله حتى أنها وبعد مضي الساعة لازالت تنتظره بالشرفة تفتقده وتشعر بالقلق البالغ عليه ولكن كبريائها أو بالأصح بقايا كبرياء استقرت داخلها تمنعها من أن تفعل وتريح على الأقل قدميها ولا داعي لذكر العقل الذي توقف عن العمل منذ أن تخطت الساعة منتصف الليل بكثير فالقلب قام بالمهمة على أكمل وجه ومر بخاطرها كل الظنون والمساوىء اللعېنة التي قد تصيبه أثناء غيابه وطرقت برأسها للمرة الألف ربما لهاتفها الساكن فوق الطاولة تراجع إشارته وصوته إذا مالذي يمنعه من الإتصال والنزول من عليائه قليلا ليتصل بها ويطمئنها عليه لو إمكانها الإتصال به كما كانت تفعل بالماضي..الماضي الذي يعد بالنسبة لها ماض سحيق يعود ربما لأول سنة من عمر زيجتهم كان أحيانا كثيرة يقابل نوعية تلك المكالمات القلقة من جانبها بشيء من النفور حيث أنه لم يعد طفلا صغيرا ولكن الأمر أضحى تبرما واضحا لإضاعتها وقته الثمين بتلك الأسئلة الفارغة التي لا معنى لها سوى أنها تعاني من فراغ وضيق أفق بين وتوقفت عن الإتصال به..فقط للطوارىء.. كانت تلك كلماته بالتحديد عدا ذلك لن يرد عليها وما هي الطوارىء بالنسبة له سوى مكروها أصاب والدته المصون أو أحد الأبناء بعيد الشړ أو هي قالها على إستحياء وربما كان داخله يظن أنه لا مانع هكذا توقن وهكذا توقفت عن الإتصال به حتى في الطوارىء التي حدثت مرة أو اثنتان وتكفلت الجاسوسة نعمات بالإتصال إذ وقع سليم من أعلى الدرج مرة كلفته شقا أسفل ذقنه ومن ستر الله لم يكن ظاهرا للأعين ولكنه كان في نظره چرحا بليغا مهولا چرحا يجسد تقصير وإهمال منها هكذا كانت هي دوما المقصرة بحق أبناءه أمه وهو ..الجميع باختصار! وعاودت النظر للهاتف مرة أخرى وأبدا هي لن تتصل به ولكنها ستظل واقفة لساعة أخرى ربما تنتظره وبعد أن يعود ستتظاهر بالنوم كما كانت تفعل منذ أسبوع تقريبا فبعد أن تحسنت الأجواء نسبيا بينهما وشعرت سوسن خانون بتلك الهدنة المؤقتة حتى أشعلت حربا جديدا معها وكالفراشة الساذجة التي تنجذب للهب مرة بعد الأخرى وقعت بشرك مؤامرتها التي لا تكف عن اللجوء لها افتعال مشكلة ما تتطاول فيها عليها بالإهانات فلا تسكت سالي ولا تنتبه أنها دوما تختار توقيتا مثاليا يكون فيه جاسر على وشك العودة والدخول للمنزل ليرى أمه بهيئة أقرب للإغماءة وزوجته وقد اشتد ڠضبها واحمر وجهها وصوتها يهز أركان المنزل الواسع ولكن تلك المرة كانت سوسن خانون
تمادت هي الأخرى بالسباب والإهانة حتى طالت ذكرى أبيها المرحوم فاندفعت سالي بسباب مماثل لها تلك الشمطاء لم يكن سبابا بالمعنى الحرفي ولكنها فقط قالت أنها لن ترقى أبدا لتكون إنسانة حتى تسب مېتا لم ترى منه شړا قط ولمحت في عيناه رفضا وتخاذلا فلا هو أسكت أمه التي تمادت بالسباب في حضوره ولا هو واساها بعدها بل تلك النظرة المخزية التي تخبرها أنها خذلته اللعڼة عليه وعلى أمه وعلى خذلانه الوضيع كادت تلملم أشياءها فلا بقاء لها في منزل تحت سقفه أهينت ذكرى والدها الحبيب وكانت على وشك أن تجمع ملابسها وترحل للأبد ولكنها توقفت وكفت عن جمع الملابس بل ورتبتهم من جديد في هدوء بالغ وبديناميكية شديدة أعادت كل شىء لمكانه وكأنه كان بداية حريق أسقط فوقه دلوا مملوءا بماء بارد وانطفأ عندما همست لها نفسها الجبانة أنه أبدا لن يأتي ليسترضيها وسيتركها فى بيت أهلها حتى تتعفن وکرهت نفسها وکرهت تلك حقيقة وبقيت ونفسها تواسيها أن في بقاءها ڠضبا أشد لتلك الشمطاء فإن رحلت فهذا معناه أنها قد انتصرت عليها ولا تدري متى تحولت من إنسانة هادئة خجولة مطمئنة لتلك التى تترصد المضايقة والإنتقاد حتى لو كانت خاسرة فهي رابحة طالما الطرف الآخر خاسر مثلها متى فقدت طمأنينتها متى فقدت سلامها النفسى متى تحولت نفسها الحلوة لتلك المرة بل والسؤال الأهم متى ستسعيد صفاء روحها ونقائها وهل كان يستحق أكان جاسر يستحق تلك التضحيات
في الصباح تكون أكثر نشاطا أكثر تقبلا لمعطيات الحياة وكأنها تعاهد نفسها على البدء من جديد رغم كل الصعاب رغم كل مامر بها فقدانها لأمها وهي طفلة فى الثانية عشر من عمرها قدر ماكان قاسېا قدر ما لقنها درسا بقيمة الأشياء والأشخاص في حياتها ويوما بعد يوم يزداد نضوجها وتقل حاجتها للناس من حولها منذ إصابه والدها بوعكة صحية شديدة العام الفائت أخذت تمرن نفسها على تلقيها خبر رحيله عن الحياة لتصبح بعدها وحيدة تماما دونه نعم هي أحيانا تشعر بالوحدة بالرغم من أنها زوجة وبامتياز خمس أعوام مرت لكن اليوم وتحديدا تلك الساعة المبكرة من هذا الصباح وهي ممسكة بهاتفها وشاشته تحمل صورة واضحة لملامح زوجها وهو يغازل أخرى فاتنة لم تكن تجهلها فالكل يعلم من تكون داليا الزهري أيقنت بالفعل أنها وحيدة...
.. عملت أيه يا مچنونة
لم تلتفت لصړاخ صديقتها المقربة منها وقالت بسأم
.. بعت الصور لمراته
قفزت إنجي من على الكرسى الممدد تحت أشعة الشمس وجلست على طرفه لتقترب من صديقتها التي وبالرغم من جمال بشرتها إلا أنها تصر على صبغها بلمحة برونزية قائلة
.. ليه كده زياد ممكن يبعد عنك
خلعت نظارتها الشمسية ومالت قليلا ناحيتها وقالت بنفاذ صبر
.. ومين قالك إن زياد يهمني
شعرت أنها تتوه في مخطط صديقتها بالرغم من أنها كانت سابقا من تحركها بترتيبات لم يكن لعقلها قبل بها
.. داليا بجد أنا مبقتش فهماك
ون الهاتف ليقاطعهم فنظرت فيه قبل أن تناوله لها قائلة
.. ده زياد ..أكيد آشري مسكتتش
تناولت منها الهاتف وألقته في حقيبتها بإهمال فرفعت إنجي حاجبيها بتعجب
.. كمان مش هترد عليه
وضعت نظارتها من جديد وأجابتها بهدوء
.. توء
وأطلقت بعدها ضحكة عابثة عندما تلقت ملامح الخيبة والتبرم المرسومة بدقة على وجه صديقتها
متابعة القراءة