رواية جاسر الجديدة الجزء الثاني
المحتويات
واقتحمه تحت أنظار مديرة أعمالها المنشغلة بمكالمة هاتفية أخرتها عن اللحاق به حتى توقف تماما في منتصف الغرفة تحت أنظار آشري المندهشة وحمرة الخجل تعلو وجنتيها رغما عنها لأول مرة منذ وقت بعيد والسبب ليس فقط معنيا بباقة الزهور الرقيقة التي كان يحملها ولا أيضا بهيئته المٹيرة ببذلته الكلاسيكية دون ربطة عنق ولكن نظرة عيناه الجريئة المعلقة بها وحدها كانت الدافع الأقوى شکرت آشري مديرة أعمالها بصوت أبح وتابعت بأنفاس متلاحقة
فأجاب بصوته الواثق المرح
عيد الربيع
ضحكت رغما عنها وقالت بعبس زائف
لسه زي ما أنت متغيرتش
اقترب بقوة حتى أصبح على بعد سنتيمترات قليلة وقال بأنفاس ساخنة
فيه حاجات إستحالة تتغير فيا يا آشري واعترفي أنها من مميزاتي
هزت رأسها بإذعان لطالما كان بارعا في فنون الغزل والتقرب من المرأة بشكل عام وحمقاء من ترفض غزل رجل جذاب مثله وأكثر حماقة من ترفض باقة زهور مدت يدها وتناولتها منه برفق ووضعتها برقة فوق سطح مكتبها وقالت بعيون لامعة
اقترب مرة ثانية ولكن منحها مساحة أوسع قائلا برجاء
فعلا لأنه حتی ده قليل عليك بس أنت إديني فرصة أعوضك على اللي فات
نظرت له والألم يعود ليقتات من فرحتها
مش هستحمل ۏجع تاني یا زیاد
اقترب أكثر وبنبرة أكثر دفئا وحنانا قال
إستحالة الۏجع كله من نصيب قلبي وأنا بعيد عنك
شعرت كأنما اختطف دقات من قلبها على حين غرة فهربت بعيناها من محاصرته فقال برجاء مرح
رفعت له رأسها بأنفاس متهدجة
على فين
ابتسم وهو يقول
يعني مجتيش حفلة الإفتتاح قلت أعملك حفلة على الضيق أنا وأنت نتغدی سوا وتشوفي المكان
وكيف بإمكانها الرفض وعيناه تبتسم له وملامح وجهه تنطق بالفخر لكأنما طفل صغير أنجز واجبه على أكمل وجه خاېفة أكون بظلمك رسالة مكونة من ثلاث كلمات لم تحمل وعدا ولا ردا بنعم كما يحلم ولكنها رسمت إبتسامة واسعة على فمه ومضى بأنامل ثابتة يخط عبارته التي تحمل صدق قلبه ومشاعره الظلم بعينه أنك تبعديني عنك ولم تلقي رسالته سوی بمزيدا من الخۏف بداخلها فتنهدت بتعب حتى أتاها رنين الهاتف ليزيد من أرق مضجعها فردت بصوت مرتجف ولم يمنحها حتى فرصة إلقاء التحية عليه وقال
اعترضت
کریم أنت بتستعجل أوي
رد قاطعا شكوكها
ما أنت بتهربي يا سالي خلينا نجرب سوا قوليلي إيه اللي هنخسره وبعدين دي مجرد خطوبة هوا أنا بقولك هجيب المأذون وآجي
ظلت صامتة لوقت طويل حتى قالت
طب خليها آخر الأسبوع أكون حتى اتكلمت مع الولاد
ابتسم بسعادة وقال بنبرة لا تخلو منها
ابتسمت رغما عنها وقالت
ماشي بس متكلمهومش في حاجة
هز رأسه وقال مطمئنا
متقلقيش مش عاوزك
تشيلي هم حاجة وأنا جمبك
عاد لمكتبه بعد إنقطاع عن العمل دام أياما متتالية ليس هربا ولكنه كان تائها بالفعل فبعد أن ودعها عاد لمنزله وغرق بألبوم صور وذكريات تقبع به وهاهو معلقا بين ماض وحاضر مشتت حتى نفض عنه الكسل صباح اليوم وتناول فطورا سريعا وهاهو يمارس مهام عمله الروتيني بشيء من الملل يصارع رغبة ساقيه في المضي نحو الطابق الأخير وريثما كان غارقا بدوامته الغير مستقرة دلفت تلك الفتاة التي لايدرك من معالمها سوى شعرها الفقير بشقرته وهي تضع بنعومة فائقة أوراقا مكتبيه تتطلب توقيعه وقالت بصوتها الرفيع وهي تحمل مغلفا أصفر اللون
تناوله منها عابسا وقال
هوا مجاش النهاردة
هزت رأسها نافية
لاء
ومضت مرة أخرى نحو الخارج حتى توقفت لتقول بمكر
ولا الأستاذة درية
رفع لها عيناه بحيرة ولكن الورقة التي كانت بداخل المظروف تحمل تفسيرا منطقيا مما جعل الڠضب يشتعل برأسه فكيف يقبل جاسر بإستقالتها دون الرجوع إليه ومالذي حدث ليدفعها لترك العمل قام وحمل سترته واتجه للباب وكاد أن يصطدم بجسد أخيه الضخم فهتف به حانقا
هوا أنا آخر من يعلم في الشركة دي ولا إيه
فابتسم له جاسر بسماجة وقال ليزيد من
غيظه
طبيعي هوا أنت بتيجي
زعق به غير مباليا
وحتى لو مجتش في أمور المفروض ترجعلي فيها
رفع جاسر حاجبيه بتهكم وقال ساخرا
المفروض إني أرجعلك بخصوص سكرتيرة مكتبي جديدة دي ما تيجي تنقيلي ألبس إيه بالمرة
أغلق أسامة الباب وقال بحدة وهو يرخي ربطة عنقه بضيق قائلا
جاسر أنا مش ناقصك درية استقالت ليه
ظل جاسر صامتا يراقب أخيه الذي يغلي ويزيد من فرط انفعاله حتى جلس بهدوء ودون أن يرفع أنظاره إليه قال ببرود
أصلها هتتجوز
هتف أسامة بحنق مخټنق
نعم
ضاقت عينا جاسر وهو يتابع ثورة أخيه
عقيد متقاعد في الجيش
هتف أسامة بغيظ
برضه البأف ده إياه
تبسم جاسر رغما عنه وقال
مشفتوش الصراحة لكن ده طالما رأيك فيه يبقى أكيد راجل محترم
نظر له أسامة بعيون محترقة
نعم يا أخويا أنت معايا ولا معاه
ضحك جاسر رغما عنه وقال وهو يدعي البراءة
معاك طبعا بس على مين
توترت أوصال أخيه ومضى يذرع الغرفة بأنفاس متقطعة وقال ضائقا
عامل فيه حكیم روحاني حضرتك يا شيخ أتنيل قال حالك أحسن من حالي
هز جاسر رأسه مذعنا وقال معترفا
في دي معاك حق
وقام لينصرف وقبل أن يختفي من طريق أخيه ألقي قنبلته الثانية
داليا أجهضت واتطلقنا
تاركا إياه يحدق في إثره متعجبا متأملا في تدابير القدر شباكا تنسج من حولنا لا ندري أتحركنا أن نحن من نقودها ونصنع المزيد منها وهل الحرية سبیلنا خارجها أم بداخلها
في الوقت الذي تبدأ فيه بإستعادة أنفاسك وتعديل مسار حياتك في مضمار جدید تظن أنه قد يحمل لحياتك السلام أخيرا تفاجئك الحياة بأنه قد فات الآوان.
اصطدمت عربة التسوق خاصتها بأخرى لم تنتبه لها إذ كانت منشغلة بتفحص مكونات علبة حبوب للإفطار طلبها أيهم خصيصا وغمغمت وهي تلقي نظرة سريعة لصاحب العربة المقابلة بكلمة إعتذار ماكانت سوى ثوان حتی تلاشت حروفها وحلت محلها نظرة دهشة متوترة قابلتها عيون شديدة السواد بڠضبها فهتفت بتعجب
أسامة !
ثم مالبثت أن استعادت رباطة جأشها وهي تسترجع مشهد العناق الحميم خاصته وقطبت جبينها وقالت بضيق
أنت بتعمل إيه هنا
اندفع نحو الرف وألقي بعربته بعضا من المنتجات دون اكتراث قائلا
إيه بشتري حاجات أنا كمان ولا السوبر ماركت معمول مخصوص عشان طلبات سعادتك
انزوت شفتيها بإبتسامة ساخرة مريرة وقالت
لاء طبعا اتفضل عن إذنك
حرکت عربتها لتبتعد عن طريقه فزعق بها بإنزعاج تام
ياسلام واخد أنا المشوار من بيتي لحد السوبر ماركت اللي جمب بيتك عشان اتبضع
التفتت له ببرود غير عابئة بنظرات البائع المتطفلة وقالت
والله ميهمنيش ثم أنا سألتك بتعمل إيه هنا
نفث محاولا التريث والهدوء وقال
أقدر أعرف غيرتي رأيك ليه أنت مش قولت أنها مش خطوبة
هزت رأسها وقالت بنفس التماسك
وقتها مكنتش خطوبة
قال غاضبا
وإيه اللي اتغير
هزت رأسها وهي تمنع الألم من التسلسل لنبرة صوتها المتماسكة ظاهريا قائلة
شيء ميخصكش حياتي الشخصية ملكي أنا لوحدي وبعدين أنت على أي أساس جاي تحاسبني
اقترب منها بسرعة قائلا بهمس خطړ
الأساس أنت عارفاه کویس بادرية
ابتسمت وقالت بتهكم مرير والمشهد حاضرا ومتجسدا بقوة أنفاسه
آه بأمارة الأحضان على أبواب المستشفيات
تراجع للخلف خطوة باهتا وتابعت هي بجدية تلك المرة لتضع خط النهاية ومن بعدها لا عودة
من الأساس مكنش فيه أساس يا أسامة ومن فضلك أنا مش عاوزة أشوفك تاني ولا حابة الشو ده يتكرر في مكان عام وخصوصا لما يكون قرب بيتي وولادي عن إذنك
تابع
انصرافها المتعجل والثابت نحو منصة دفع الحساب صامتا وهو يشعر بنيران تشتعل في أوصاله لم يكن يدري أن عبثه الغير مجد مع غيرها قد يحرمه فعليا منها بل لم يكن يدري حتى تلك اللحظة أنها بالفعل من أراد ومرارة الخسران تخنق حلقه للمرة الثانية بحياته غير أنه يشعر تلك المرة بأن خسارته أكبر إذ فقد الفرصة للعيش مرة أخرى وتذوق الحياة من جديد في تلك اللحظات القليلة التي تسبق انفصالها عن صغارها تغرقهم فيها بالأحضان والقبلات ووعود لمقابلة قريبة فوق السحاب في دنيا الأحلام توقفت بسيارتها الحديثة أمام البوابة المعدنية الضخمة لقصر آل سليم وهي تبحث عن كلمات مناسبة تبدأ فيها حوارا متأخرا للغاية إذ أنها سويعات ويحضر کریم ووالده لمنزلها لطلب يدها قالت بأنفاس متهدجة
إيه رأيكم في عمو کریم ياولاد!
عبس سليم وهو يبحث بعقله عن مغزی لسؤال والدته وظل صامتا فيما قالت سلمى ببراءة
دمه خفيف أووي هتجيبه المرة الجاية يتفسح معانا يا ماما
ابتسمت سالي وقالت
آه إيه رأيكم
كانت عيناها متعلقة بنسخة جاسر الغامضة وتسائلت داخلها كيف يمكن أن يكون الشبه بينهما ليس فقط بملامح جذابة بل وأيضا بخبايا نفس معتدة بكرامة والابن كأبيه بالفعل ظل صامتا يترقب توتر شفتيها بكلمات تائهة وسؤال لا معنى له
إيه رأيك يا سليم!
زم سليم شفتيه وقال
دمه تقيل لكن طبعا براحتك يا ماما انزعجت سالي وقالت متسائلة
ليه ياسليم بتقول عليه كده
رد بصراحته المطلقة
مش بستریح لحد يحاول يتصاحب عليا في أول مرة نشوف بعض فيها
ضحكت سلمى وهي ترفع كفيها للأعلى قائلة بطفولية محببة
ياساتر يارب عليك يا أخي
تجاهلها سليم وقال بجدية
يعني لو لازم يجي المرة الجاية ياريت ميتكلمش كتير
ظلت سالي صامتة وهي لاتدري كيف التصرف لقد تملكتها نوبة من الجرأة الفجائية منذ قليل وقررت مصارحة الطفلين بأمر الزيارة القريبة ولكن مع تأفف سليم الواضح من شخص کریم أصبحت تشعر بالخۏف وكأنما قرأ الصغير أفكارها فقال
لكن أنت بتسألي ليه ياماما هوا أحنا هنشوفه كتير بعد كده
رفعت سالي أنظارها له وهي تقول دون أن تشعر
أنا وعمو کریم هنتجوز
وتراجع الإثنان سويا لمقعدهما بالخلف ونظرة مبهمة قد علت ملامحهما فأسرعت سالي تقول
يمكن يمكن نتجوز وكنت عاوزة أعرف رأيكم فيه
تبادل الإثنان النظرات وقالت سلمى بأنفاس متهدجة بصوت قطعت أنفاس سالي حسرة وڠضبا في الوقت ذاته
یعني أنت خلاص مش هترجعي أبدا تعيشي معانا في البيت !
هزت سالي رأسها وقبل أن تهرب بأنظارها بعيدا ألقت نظرة متخوفة على وجه الصغير الذي التزم الصمت وعلا ملامحه الجمود ثم قالت بهمس
معدتش ينفع ياسلمی
ومدت يدها وقبضت على كفوفهم وقالت بحب عارم
لكن لازم تعرفوا أنتوا أغلى حاجة في حياتي وإنهم لو خيروني بينكم وبين أي حد تاني أنا لا يمكن أبعد عنكم وأسيبكم
هتف سليم يإتهام قاس يتجاوز سنين عمره
أومال هتتجوزي أنت كمان ليه
نکست سالي رأسها قليلا وقالت
عشان محدش يقدر يعيش لوحده ياسليم
متابعة القراءة